دائماً أتساءل عندما أُقبل على قراءة رواية جديدة: ما اللقطة التى سينفرد بها هذا الروائى ليختلف عن مئات الآلاف من الروايات التى صدرت فى أنحاء العالم؟ هل مازال هناك الجديد الذى لم يلتقط بعد؟! أشفق على كتاب الرواية دوماً من نفاد صبر ومخزون عدسات كاميراتهم الإبداعية، إنه أكبر وأخطر التحديات التى تواجه أى روائى، لذلك اندهشت وانتشيت برواية «كتيبة سوداء» للكاتب د. محمد المنسى قنديل، فهو لم يخذل مريديه ومحبيه واستطاع تجاوز هذا التحدى، ولا أبالغ إذا قلت إنه التقط حدثاً مدهشاً من أعماق التاريخ نستطيع أن نقول- وبكل راحة ضمير- إنه إبداع حصرى بكر طازج للمنسى قنديل لم يخطر على بال روائى من قبل، ثبَّت المنسى الكادر الروائى على حدث فى منتهى العبثية، حدث يقفز من على كل أسوار المنطق ويتجاوز كل المياه الإقليمية للعقل، كتيبة من سود البشرة ومن قلب القارة السمراء يتم اصطيادهم لإرسالهم لآخر الدنيا فى المكسيك! لماذا؟ لأن الخديو فى مصر يلبى طلب نمساوى من العائلة الحاكمة هناك اختارته فرنسا التى تحتل المكسيك لكى يحكم هذا البلد اللاتينى الممتلئ بالمشاكل والتعقيدات والأحراش والصراعات!! هل هناك عبث وسرياليزم أكثر من هذا؟ كافكاوية تاريخية، إن صح التعبير، حدث له أصل تاريخى تتخيل وأنت تقرؤه أنك تتعامل مع حكام وقادة مجانين فقدوا عقولهم، وعبيد يساقون إلى سوق النخاسة الحربية كالحيوانات وترمى جثثهم النافقة فى عرض البحر وكأنهم أحمال زائدة على سفينة ضالة، أحلام أباطرة ولهو وعبث لحكام ملأوا الدنيا ضجيجاً ونَصَّبناهم أبطالاً، وهم فى قمة الوضاعة، رواية مكتوبة بدم هؤلاء العبيد الذين يدفعون ثمن فقرهم وسواد بشرتهم، مغموسا فى محبرة أحلام وطموحات إمبراطوريات تغرس أنيابها الدراكولية فى رقاب بلاد تسكن الأوطان ولا تمتلكها، فصول الرواية على المستوى الشكلى مقسمة بصرامة هندسية لا تخطئها عين، كأن أزميل مايكل أنجلو ذا النصل الحاد شكل جسد الرواية وأبدعها وهندسها وأزال زوائدها بمنتهى البراعة وضبط مواقيتها بساعة جرينتش الروائية، فامتلكت إيقاعاً مدهشاً رائعاً منضبطاً، كل فصل يرصد رحلة، من رحلة صيد العبيد السود الذين سيكونون كتيبة الحرب، إلى رحلتهم إلى مصر، حيث الخديو، إلى رحلتهم إلى المكسيك، مروراً بمحطات متعددة، إلى رحلة الحاكم النمساوى إلى فرنسا وإلى المكسيك.. إلخ، دائرة جهنمية من السفر والترحال يلهث معها القارئ، تارة يشم رائحة الجثث ويرى الدم المتخثر، وتارة يعيش أجواء كرنفالات الاحتفالات وأجواء القصور الأوروبية، فى خلفية المشهد يطل الجنس بخليط وكوكتيل من الجوع والحيوية والسخونة والخيانة والاحتياج، لا يفرق بين جوع العبد الأسود لامرأة مكسيكية يشتهيها، أو جوع زوجة حاكم إمبراطور إلى إنسان يمنحها الحب والنشوة فى لحظات سرقة من الزمن والبروتوكول، هذا الانضباط على مستوى الشكل وهذه الصرامة على مستوى التقسيم الروائى الذى فعله المنسى قنديل لم ينعكسا على حرية ورحابة وانطلاق المضمون ورشاقة الأسلوب وبلاغة التعبير، كيف اجتمعت سريالية المضمون مع صرامة الشكل؟! هذا هو سر المنسى قنديل الذى لا يتعمد إخفاءه، ولكن مَن يستطيع أن يلمس روح المنسى سيستطيع أن يقتنص سره الروائى! إنه مثل المعمارى الماهر الذى صمم قصراً أثرياً منضبطاً بالملليمتر، ثم وضع فيه لوحات سريالية مثيرة وأثاثا ينتمى إلى عالم الفضاء، واستضاف فيه حفلات يختلط فيها عرق الأفارقة ببارفانات عائلات أوروبا المالكة!! تحفة روائية تهزك من الأعماق، الإبحار فى أسرارها مغامرة ممتعة، لكن تظل اللقطة مسيطرة على المشهد تجبرك على أن تسأل السؤال الذى يؤرق أى مبدع: «جابها ازاى المنسى قنديل، جت على باله ازاى الفكرة المجنونة دى؟؟!!»، لو كانت الإجابة سهلة ملقاة على قارعة الطريق لما كان الإبداع وما كان المبدعون، فالفن سر كالسراب ما إن تظن أنك قد أمسكته واحتويته تجده يتسرب من بين أصابعك ليستقر فى حجر أصحاب الكرامات الفنية، والمنسى قنديل حتماً من ضمن هؤلاء.